فصل: باب التَّكْبِيرِ أَيَّامَ مِنًى وَإِذَا غَدَا إِلَى عَرَفَةَ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب فَضْلِ الْعَمَلِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ أَيَّامُ الْعَشْرِ وَالْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ يُكَبِّرَانِ وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا وَكَبَّرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ خَلْفَ النَّافِلَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب فضل العمل في أيام التشريق‏)‏ مقتضى كلام أهل اللغة والفقه أن أيام التشريق ما بعد يوم النحر، على اختلافهم هل هي ثلاثة أو يومان، لكن ما ذكروه من سبب تسميتها بذلك يقتضي دخول يوم العيد فيها‏.‏

وقد حكى أو عبيد أن فيه قولين‏:‏ أحدهما لأنهم كانوا يشرقون فيها لحوم الأضاحي، أي يقددونها ويبرزونها للشمس‏.‏

ثانيهما لأنها كلها أيام تشريق لصلاة يوم النحر فصارت تبعا ليوم النحر‏.‏

قال‏:‏ وهذا أعجب القولين إلي، وأظنه أراد ما حكاه غيره أن أيام التشريق سميت بذلك لأن صلاة العيد إنما تصلى بعد أن تشرق الشمس‏.‏

وعن ابن الأعرابي قال‏:‏ سميت بذلك لأن الهدايا والضحايا لا تنحر حتى تشرق الشمس، وعن يعقوب بن السكيت قال‏:‏ هو من قول الجاهلية‏:‏ أشرق ثبير كيما نغير، أي ندفع لننحر‏.‏

انتهى‏.‏

وأظنهم أخرجوا يوم العيد منها لشهرته بلقب يخصه وهو يوم العيد، وإلا فهي في الحقيقة تبع له في التسمية كما تبين من كلامهم‏.‏

ومن ذلك حديث علي ‏"‏ لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع ‏"‏ أخرجه أبو عبيد بإسناد صحيح إليه موقوفا، ومعناه لا صلاة جمعة ولا صلاة عيد‏.‏

قال‏:‏ وكان أبو حنيفة يذهب بالتشريق في هذا إلى التكبير في دبر الصلاة يقول‏:‏ لا تكبير إلا على أهل الأمصار‏.‏

قال‏:‏ وهذا لم نجد أحدا يعرفه، ولا وافقه عليه صاحباه ولا غيرهما‏.‏

انتهى‏.‏

ومن ذلك حديث ‏"‏ من ذبح قبل التشريق أي قبل صلاة العيد - فليعد ‏"‏ رواه أبو عبيد من مرسل الشعبي ورجاله ثقات، وهذا كله يدل على أن يوم العيد من أيام التشريق، والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال ابن عباس‏:‏ ويذكروا اسم الله في أيام معلومات‏)‏ كذا لأبي ذر عن الكشميهني‏.‏

وفي رواية كريمة وابن شبويه ‏"‏ وقال ابن عباس‏:‏ واذكروا الله الخ ‏"‏ وللحموي والمستملي ‏"‏ ويذكروا الله في أيام معدودات ‏"‏ واعترض عليه بأن التلاوة ‏(‏ويذكروا اسم الله في أيام معلومات‏)‏ أو ‏(‏واذكروا الله في أيام معدودات‏)‏ وأجيب بأنه لم يقصد التلاوة، وإنما حكى كلام ابن عباس، وابن عباس أراد تفسير ‏"‏ المعدودات والمعلومات ‏"‏ وقد وصله عبد بن حميد من طريق عمرو بن دينار عنه وفيه ‏"‏ الأيام المعدودات أيام التشريق، والأيام المعلومات أيام العشر ‏"‏ وروى ابن مردويه من طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال ‏"‏ الأيام المعلومات التي قبل يوم التروية ويوم التروية ويوم عرفة، والمعدودات أيام التشريق ‏"‏ إسناده صحيح، وظاهره إدخال يوم العيد في أيام التشريق‏.‏

وقد روى ابن أبي شيبة من وجه آخر عن ابن عباس ‏"‏ أن المعلومات يوم النحر وثلاثة أيام بعده ‏"‏ ورجح الطحاوي هذا لقوله تعالى ‏(‏ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام‏)‏ فإنه مشعر بأن المراد أيام النحر‏.‏

انتهى‏.‏

وهذا لا يمنع تسمية أيام العشر معلومات، ولا أيام التشريق معدودات، بل تسمية أيام التشريق معدودات متفق عليه لقوله تعالى ‏(‏واذكروا الله في أيام معدودات‏)‏ الآية‏.‏

وقد قيل‏:‏ إنها إنما سميت معدودات‏.‏

لأنها إذا زيد عليها شيء عد ذلك حصرا أي في حكم حصر العدد، والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر الخ‏)‏ لم أره موصولا عنهما، وقد ذكره البيهقي أيضا معلقا عنهما وكذا البغوي‏.‏

وقال الطحاوي‏:‏ كان مشايخنا يقولون بذلك أي بالتكبير في أيام العشر‏.‏

وقد اعترض على البخاري في ذكر هذا الأثر في ترجمة العمل في أيام التشريق، وأجاب الكرماني بأن عادته أن يضيف إلى الترجمة ما له بها أدنى ملابسة استطرادا‏.‏

انتهى‏.‏

والذي يظهر أنه أراد تساوي أيام التشريق بأيام العشر لجامع ما بينهما مما يقع فيهما من أعمال الحج، ويدل على ذلك أن أثر أبي هريرة وابن عمر صريح في أيام العشر، والأثر الذي بعده في أيام التشريق‏.‏

وسيأتي مزيد بيان لذلك بعد قليل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكبر محمد بن خلف النافلة‏)‏ هو أبو جعفر الباقر، وقد وصله الدار قطني في المؤتلف من طريق معن بن عيسى القزاز قال حدثنا أبو وهنة رزيق المدني قال ‏"‏ رأيت أبا جعفر محمد بن علي يكبر بمنى في أيام التشريق خلف النوافل ‏"‏ وأبو وهنة بفتح الواو وسكون الهاء بعدها نون، ورزيق بتقديم الراء مصغرا، وفي سياق هذا الأثر تعقب على الكرماني حيث جعله يتعلق بتكبير أيام العشر كالذي قبله، قال ابن التين‏:‏ لم يتابع محمدا على هذا أحد، كذا قال، والخلاف ثابت عند المالكية والشافعية هل يختص التكبير الذي بعد الصلاة في العيد بالفرائض أو يعم، واختلف الترجيح عند الشافعية، والراجح عند المالكية الاختصاص‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ قَالُوا وَلَا الْجِهَادُ قَالَ وَلَا الْجِهَادُ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن سليمان‏)‏ هو الأعمش، ومسلم هو البطين بفتح الموحدة لقب بذلك لعظم بطنه، وقد رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة فصرح بسماع الأعمش له منه ولفظه ‏"‏ عن الأعمش قال سمعت مسلما ‏"‏ وهكذا رواه الثوري وأبو معاوية وغيرهما من الحفاظ عن الأعمش، وأخرجه أبو داود من رواية وكيع عن الأعمش فقال ‏"‏ عن مسلم ومجاهد وأبي صالح عن ابن عباس ‏"‏ فأما طريق مجاهد فقد رواه أبو عوانة من طريق موسى بن أبي عائشة عن مجاهد فقال ‏"‏ عن ابن عمر ‏"‏ بدل ابن عباس‏.‏

وأما طريق أبي صالح فقد رواه أبو عوانة أيضا من طريق موسى بن أعين عن الأعمش فقال ‏"‏ عن أبي صالح عن أبي هريرة ‏"‏ والمحفوظ في هذا حديث ابن عباس، وفيه اختلاف آخر عن الأعمش رواه أبو إسحاق الفزاري عن الأعمش فقال ‏"‏ عن أبي وائل عن ابن مسعود ‏"‏ أخرجه الطبراني، وقد وافق الأعمش على روايته له عن مسلم البطين سلمة بن كهيل عند أبي عوانة أيضا، ورواه عن سعيد بن جبير أيضا القاسم بن أبي أيوب عند الدارمي وأبو عوانة وأبو جرير السختياني عند أبي عوانة وعدي بن ثابت عند البيهقي، وسنذكر ما في رواياتهم من الفوائد والزوائد إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما العمل في أيام أفضل منها في هذه‏)‏ كذا لأكثر الرواة بالإبهام، ووقع في رواية كريمة عن الكشميهني ‏"‏ ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هذه ‏"‏ وهذا يقتضي نفي أفضلية العمل في أيام العشر على العمل في هذه الأيام إن فسرت بأنها أيام التشريق، وعلى ذلك جرى بعض شراح البخاري، وحمله على ذلك ترجمة البخاري المذكورة فزعم أن البخاري فسر الأيام المبهمة في هذا الحديث بأنها أيام التشريق، وفسر العمل بالتكبير لكونه أورد الآثار المذكورة المتعلقة بالتكبير فقط‏.‏

وقال ابن أبي جمرة‏:‏ الحديث دال على أن العمل في أيام التشريق أفضل من العمل في غيره، قال‏:‏ ولا يعكر على ذلك كونها أيام عيد كما تقدم من حديث عائشة، ولا ما صح من قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏ أنها أيام أكل وشرب ‏"‏ كما رواه مسلم، لأن ذلك لا يمنع العمل فيها، بل قد شرع فيها أعلى العبادات وهو ذكر الله تعالى، ولم يمنع فيها منها إلا الصيام‏.‏

قال‏:‏ وسر كون العبادة فيها أفضل من غيرها أن العبادة في أوقات الغفلة فاضلة على غيرها، وأيام التشريق أيام غفلة في الغالب فصار للعابد فيها مزيد فضل على العابد في غيرها كمن قام في جوف الليل وأكثر الناس نيام، وفي أفضلية أيام التشريق نكتة أخرى وهي أنها وقعت فيها محنة الخليل بولده ثم من عليه بالفداء، فثبت لها الفضل بذلك ا هـ‏.‏

وهو توجيه حسن إلا أن المنقول يعارضه، والسياق الذي وقع في رواية كريمة شاذ مخالف لما رواه أبو ذر وهو من الحفاظ عن الكشميهني شيخ كريمة بلفظ ‏"‏ ما العمل في أيام أفضل منها في هذا العشر ‏"‏ وكذا أخرجه أحمد وغيره عن غندر عن شعبة بالإسناد المذكور‏.‏

ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة فقال ‏"‏ في أيام أفضل منه في عشر ذي الحجة ‏"‏ وكذا رواه الدارمي عن سعيد بن الربيع عن شعبة‏.‏

ووقع في رواية وكيع المقدم ذكرها ‏"‏ ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام ‏"‏ يعني أيام العشر، وكذا رواه ابن ماجه من طريق أبي معاوية عن الأعمش، ورواه الترمذي عن رواية أبي معاوية فقال ‏"‏ من هذه الأيام العشر ‏"‏ بدون يعني، وقد ظن بعض الناس أن قوله ‏"‏ يعني أيام العشر ‏"‏ تفسير من بعض رواته، لكن ما ذكرناه من رواية الطيالسي وغيره ظاهر في أنه من نفس الخبر‏.‏

وكذا وقع في رواية القاسم بن أبي أيوب بلفظ ‏"‏ ما من عمل أزكى عند الله ولا أعظم أجرا من خير يعمله في عشر الأضحى ‏"‏ وفي حديث جابر في صحيحي أبي عوانة وابن حبان ‏"‏ ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجة ‏"‏ فظهر أن المراد بالأيام في حديث الباب أيام عشر ذي الحجة، لكنه مشكل على ترجمة البخاري بأيام التشريق ويجاب بأجوبة‏.‏

أحدها‏:‏ أن الشيء يشرف بمجاورته للشيء الشريف، وأيام التشريق تقع تلو أيام العشر، وقد ثبتت الفضيلة لأيام العشر بهذا الحديث فثبتت بذلك الفضيلة لأيام التشريق‏.‏

ثانيها‏:‏ أن عشر ذي الحجة إنما شرف لوقوع أعمال الحج فيه، وبقية أعمال الحج تقع في أيام التشريق كالرمي والطواف وغير ذلك من تتماته فصارت مشتركة معها في أصل الفضل، ولذلك اشتركت معها في مشروعية التكبير في كل منها، وبهذا تظهر مناسبة إيراد الآثار المذكورة في صدر الترجمة لحديث ابن عباس كما تقدمت الإشارة إليها‏.‏

ثالثها‏:‏ أن بعض أيام التشريق هو بعض أيام العشر وهو يوم العيد، وكما أنه خاتمة أيام العشر فهو مفتتح أيام التشريق، فمهما ثبت لأيام العشر من الفضل شاركتها فيه أيام التشريق، لأن يوم العيد بعض كل منها بل هو رأس كل منها وشريفه وعظيمه، وهو يوم الحج الأكبر كما سيأتي في كتاب الحج إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قالوا ولا الجهاد‏)‏ في رواية سلمة بن كهيل المذكورة ‏"‏ فقال رجل ‏"‏ ولم أر في شيء من طرق هذا الحديث تعيين هذا السائل‏.‏

وفي رواية غندر عند الإسماعيلي قال ‏"‏ ولا الجهاد في سبيل الله مرتين ‏"‏ وفي رواية سلمة بن كهيل أيضا ‏"‏ حتى أعادها ثلاثا ‏"‏ ودل سؤالهم هذا على تقرر أفضلية الجهاد عندهم، وكأنهم استفادوه من قوله صلى الله عليه وسلم في جواب من سأله عن عمل يعدل الجهاد فقال ‏"‏ لا أجده ‏"‏ الحديث‏.‏

وسيأتي في أوائل كتاب الجهاد من حديث أبي هريرة، ونذكر هناك وجه الجمع بينه وبين هذا الحديث إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إلا رجل خرج‏)‏ كذا للأكثر، والتقدير إلا عمل رجل، وللمستملي ‏"‏ إلا من خرج‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يخاطر‏)‏ أي يقصد قهر عدوه ولو أدى ذلك إلى قتل نفسه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلم يرجع بشيء‏)‏ أي فيكون أفضل من العامل في أيام العشر أو مساويا له، قال ابن بطال‏:‏ هذا اللفظ يحتمل أمرين، أن لا يرجع بشيء من ماله وإن رجع هو، وأن لا يرجع هو ولا ماله بأن يرزقه الله الشهادة‏.‏

وتعقبه الزين بن المنير بأن قوله ‏"‏ فلم يرجع بشيء ‏"‏ يستلزم أنه يرجع بنفسه ولا بد ا هـ‏.‏

وهو تعقب مردود، فإن قوله ‏"‏ فلم يرجع بشيء ‏"‏ نكرة في سياق النفي فتعم ما ذكر، وقد وقع في رواية الطيالسي وغندر وغيرهما عن شعبة وكذا في أكثر الروايات التي ذكرناها ‏"‏ فلم يرجع من ذلك بشيء‏"‏‏.‏

والحاصل أن نفي الرجوع بالشيء لا يستلزم إثبات الرجوع بغير شيء، بل هو على الاحتمال كما قال ابن بطال، ويدل على الثاني وروده بلفظ يقتضيه، فعند أبي عوانة من طريق إبراهيم بن حميد عن شعبة بلفظ ‏"‏ إلا من عقر جواده وأهريق دمه ‏"‏ وعنده في رواية القاسم بن أبي أيوب ‏"‏ إلا من لا يرجع بنفسه ولا ماله ‏"‏ وفي طريق سلمة بن كهيل ‏"‏ فقال، لا إلا أن لا يرجع ‏"‏ وفي حديث جابر ‏"‏ إلا من عفر وجهه في التراب ‏"‏ فظهر بهذه الطرق ترجيح ما رده، والله أعلم‏.‏

وفي الحديث تعظيم قدر الجهاد وتفاوت درجاته وأن الغاية القصوى فيه بذل النفس لله، وفيه تفضيل بعض الأزمنة على بعض كالأمكنة، وفضل أيام عشر ذي الحجة على غيرها من أيام السنة، وتظهر فائدة ذلك فيمن نذر الصيام أو علق عملا من الأعمال بأفضل الأيام، فلو أفرد يوما منها تعيين يوم عرفة، لأنه على الصحيح أفضل أيام العشر المذكور، فإن أراد أفضل أيام الأسبوع تعين يوم الجمعة، جمعا بين حديث الباب وبين حديث أبي هريرة مرفوعا ‏"‏ خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ‏"‏ رواه مسلم، أشار إلى ذلك كله النووي في شرحه‏.‏

وقال الداودي‏:‏ لم يرد عليه الصلاة والسلام أن هذه الأيام خير من يوم الجمعة، لأنه قد يكون فيها يوم الجمعة، يعني فيلزم تفضيل الشيء على نفسه‏.‏

وتعقب بأن المراد أن كل يوم من أيام العشر أفضل من غيره من أيام السنة سواء كان يوم الجمعة أم لا، ويوم الجمعة فيه أفضل من الجمعة في غيره لاجتماع الفضلين فيه‏.‏

واستدل به على فضل صيام عشر ذي الحجة لاندراج الصوم في العمل، واستشكل بتحريم الصوم يوم العيد، وأجيب بأنه محمول على الغالب، ولا يرد على ذلك ما رواه أبو داود وغيره عن عائشة قالت ‏"‏ ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما العشر قط ‏"‏ لاحتمال أن يكون ذلك لكونه كان يترك العمل وهو يحب أن يعمله خشية أن يفرض على أمته، كما رواه الصحيحان من حديث عائشة أيضا‏.‏

والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره‏.‏

وعلى هذا هل يختص الفضل بالحاج أو يعم المقيم‏؟‏ فيه احتمال‏.‏

وقال ابن بطال وغيره‏:‏ المراد بالعمل في أيام التشريق التكبير فقط، لأنه ثبت أنها أيام أكل وشرب وبعال، وثبت تحريم صومها، وورد فيه إباحة اللهو بالحراب ونحو ذلك، فدل على تفريغها لذلك، مع الحض على الذكر المشروع منه فيها التكبير فقط، ومن ثم اقتصر المصنف على إيراد الآثار المتعلقة بالتكبير‏.‏

وتعقبه الزين بن المنير بأن العمل إنما يفهم منه عند إطلاقه العبادة، وهي لا تنافي استيفاء حظ النفس من الأكل وسائر ما ذكر، فإن ذلك لا يستغرق اليوم والليلة‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ الحث على العمل في أيام التشريق لا ينحصر في التكبير، بل المتبادر إلى الذهن منه أنه المناسك من الرمي وغيره الذي يجتمع مع الأكل والشرب، قال‏:‏ من أنه لو حمل على التكبير وحده لم يبق لقول المصنف بعده ‏"‏ باب التكبير أيام منى ‏"‏ معنى، ويكون تكرارا محضا ا هـ‏.‏

والذي يجتمع مع الأكل والشرب لكل أحد من العبادة هو الذكر المأمور به، وقد فسر بالتكبير كما قال ابن بطال، وأما المناسك فمختصة بالحاج، وجزمه بأنه تكرار متعقب، لأن الترجمة الأولى لفضل التكبير والثانية لمشروعيته وصفته، أو أراد تفسير العمل المجمل في الأولى بالتكبير المصرح به في الثانية فلا تكرار‏.‏

وقد وقع في رواية ابن عمر من الزيادة في آخره ‏"‏ فأكثروا فيهن من التهليل والتحميد والتكبير ‏"‏ وللبيهقي في الشعب من طريق عدي بن ثابت في حديث ابن عباس ‏"‏ فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير ‏"‏ وهذا يؤيد ما ذهب إليه ابن بطال‏.‏

وفي رواية عدي من الزيادة ‏"‏ وأن صيام يوم منها يعدل صيام سنة، والعمل بسبعمائة ضعف ‏"‏ وللترمذي من طريق سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ‏"‏ يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة، وقيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر ‏"‏ لكن إسناده ضعيف، وكذا الإسناد إلى عدي بن ثابت، والله أعلم‏.‏

*3*باب التَّكْبِيرِ أَيَّامَ مِنًى وَإِذَا غَدَا إِلَى عَرَفَةَ

وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُكَبِّرُ فِي قُبَّتِهِ بِمِنًى فَيَسْمَعُهُ أَهْلُ الْمَسْجِدِ فَيُكَبِّرُونَ وَيُكَبِّرُ أَهْلُ الْأَسْوَاقِ حَتَّى تَرْتَجَّ مِنًى تَكْبِيرًا وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُكَبِّرُ بِمِنًى تِلْكَ الْأَيَّامَ وَخَلْفَ الصَّلَوَاتِ وَعَلَى فِرَاشِهِ وَفِي فُسْطَاطِهِ وَمَجْلِسِهِ وَمَمْشَاهُ تِلْكَ الْأَيَّامَ جَمِيعًا وَكَانَتْ مَيْمُونَةُ تُكَبِّرُ يَوْمَ النَّحْرِ وَكُنَّ النِّسَاءُ يُكَبِّرْنَ خَلْفَ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَيَالِيَ التَّشْرِيقِ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْمَسْجِدِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب التكبير أيام منى‏)‏ أي يوم العيد والثلاثة بعده، و قوله‏:‏ ‏(‏وإذا غدا إلى عرفة‏)‏ أي صبح يوم التاسع، قال الخطابي‏:‏ حكمة التكبير في هذه الأيام أن الجاهلية كانوا يذبحون لطواغيتهم فيها فشرع التكبير فيها إشارة إلى تخصيص الذبح له وعلى اسمه عز وجل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكان عمر يكبر في قبته بمنى الخ‏)‏ وصله سعيد بن منصور من رواية عبيد بن عمير قال ‏"‏ كان عمر يكبر في قبته بمنى، ويكبر أهل المسجد ويكبر أهل السوق، حتى ترتج منى تكبيرا ‏"‏ ووصله أبو عبيد من وجه آخر بلفظ التعليق، ومن طريقه البيهقي‏.‏

وقوله ‏"‏ترتج ‏"‏ بتثقيل الجيم أي تضطرب وتتحرك، وهي مبالغة في اجتماع رفع الأصوات‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكان ابن عمر الخ‏)‏ وصله ابن المنذر والفاكهي في ‏"‏ أخبار مكة ‏"‏ من طريق ابن جريج ‏"‏ أخبرني نافع أن ابن عمر ‏"‏ فذكره سواء‏.‏

والفسطاط بضم الفاء ويجوز كسرها ويجوز ذلك بالمثناة بدل الطاء وبإدغامها في السين فتلك ست لغات، وقوله فيه ‏"‏ وتلك الأيام جميعا ‏"‏ أراد بذلك التأكيد، ووقع في رواية أبي ذر بدون واو على أنها ظرف لما تقدم ذكره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكانت ميمونة‏)‏ أي بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ولم أقف على أثرها هذا موصولا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكان النساء‏)‏ في رواية غير أبي ذر ‏"‏ وكن النساء ‏"‏ وهي على اللغة القليلة، وأبان المذكور هو ابن عثمان بن عفان، وكان أميرا على المدينة في زمن ابن عم أبيه عبد الملك بن مروان، وقد وصل هذا الأثر أبو بكر بن أبي الدنيا في ‏"‏ كتاب العيدين ‏"‏ وحديث أم عطية في الباب سلفهن في ذلك، وقد اشتملت هذه الآثار على وجود التكبير في تلك الأيام عقب الصلوات وغير ذلك من الأحوال‏.‏

وفيه اختلاف بين العلماء في مواضع‏:‏ فمنهم من قصر التكبير على أعقاب الصلوات، ومنهم من خص ذلك بالمكتوبات دون النوافل، ومنهم من خصه بالرجال دون النساء، وبالجماعة دون المنفرد، وبالمؤداة دون المقضية، وبالمقيم دون المسافر، وبساكن المصر دون القرية‏.‏

وظاهر اختيار البخاري شمول ذلك للجميع، والآثار التي ذكرها تساعده‏.‏

وللعلماء اختلاف أيضا في ابتدائه وانتهائه فقيل‏:‏ من صبح يوم عرفة، وقيل من ظهره، وقيل من عصره، وقيل من صبح يوم النحر، وقيل من ظهره‏.‏

وقيل في الانتهاء إلى ظهر يوم النحر، وقيل إلى عصره، وقيل إلى ظهر ثانيه، وقيل إلى صبح آخر أيام التشريق، وقيل إلى ظهره، وقيل إلى عصره‏.‏

حكى هذه الأقوال كلها النووي إلا الثاني من الانتهاء‏.‏

وقد رواه البيهقي عن أصحاب ابن مسعود ولم يثبت في شيء من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث، وأصح ما ورد فيه عن الصحابة قول علي وابن مسعود إنه من صبح يوم عرفة آخر أيام منى أخرجه ابن المنذر وغيره والله أعلم‏.‏

وأما صيغة التكبير فأصح ما ورد فيه ما أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن سلمان قال ‏"‏ كبروا الله، الله أكبر الله أكبر، الله أكبر كبيرا ‏"‏ ونقل عن سعيد بن جبير ومجاهد وعبد الرحمن بن أبي ليلى أخرجه جعفر الفريابي في ‏"‏ كتاب العيدين ‏"‏ من طريق يزيد بن أبي زياد عنهم وهو قول الشافعي وزاد ‏"‏ ولله الحمد‏"‏، وقيل يكبر ثلاثا ويزيد ‏"‏ لا إله إلا الله وحده لا شريك له الخ‏"‏، وقيل يكبر ثنتين بعدهما ‏"‏ لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد ‏"‏ جاء ذلك عن عمر، وعن ابن مسعود نحوه وبه قال أحمد وإسحاق، وقد أحدث في هذا الزمان زيادة في ذلك لا أصل لها‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الثَّقَفِيُّ قَالَ سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَنَحْنُ غَادِيَانِ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَاتٍ عَنْ التَّلْبِيَةِ كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كَانَ يُلَبِّي الْمُلَبِّي لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ وَيُكَبِّرُ الْمُكَبِّرُ فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏سألت أنسا‏)‏ في رواية أبي ذر سألت أنس بن مالك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويكبر المكبر فلا ينكر عليه‏)‏ هذا موضع الترجمة، وهو متعلق بقوله فيها ‏"‏ وإذا غدا إلى عرفة ‏"‏ وظاهره أن أنسا احتج به على جواز التكبير في موضع التلبية‏.‏

ويحتمل أن يكون من كبر أضاف التكبير إلى التلبية، وسيأتي بسط الكلام عليه في كتاب الحج إن شاء الله تعالى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ عَاصِمٍ عَنْ حَفْصَةَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ نَخْرُجَ يَوْمَ الْعِيدِ حَتَّى نُخْرِجَ الْبِكْرَ مِنْ خِدْرِهَا حَتَّى نُخْرِجَ الْحُيَّضَ فَيَكُنَّ خَلْفَ النَّاسِ فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ وَيَدْعُونَ بِدُعَائِهِمْ يَرْجُونَ بَرَكَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَطُهْرَتَهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا محمد حدثنا عمر بن حفص‏)‏ كذا في بعض النسخ عن أبي ذر وكذا لكريمة وأبي الوقت ‏"‏ حدثنا محمد ‏"‏ غير منسوب، وسقط من رواية ابن سبويه وابن السكن وأبي زيد المروزي وأبي أحمد الجرجاني، ووقع في رواية الأصيلي عن بعض مشايخه ‏"‏ حدثنا محمد البخاري ‏"‏ فعلى هذا لا واسطة بين البخاري وبين عمر بن حفص فيه، وقد حدث البخاري عنه بالكثير بغير واسطة، وربما أدخل بينه وبينه الواسطة أحيانا، والراجح سقوط الواسطة بينهما في هذا الإسناد، وبذلك جزم أبو نعيم في المستخرج‏.‏

ووقع في حاشية بعض النسخ لأبي ذر‏:‏ محمد هذا يشبه أن يكون هو الذهلي فالله أعلم‏.‏

وعاصم المذكور في الإسناد هو ابن سليمان، وحفصة هي بنت سيرين، وسيأتي الكلام على المتن بعد سبعة أبواب‏.‏

وسبق بعضه في كتاب الحيض‏.‏

وموضع الترجمة منه قوله ‏"‏ ويكبرن تكبيرهم ‏"‏ لأن ذلك في يوم العيد وهو من أيام منى، ويلتحق به بقية الأيام لجامع ما بينهما من كونهن أياما معدودات وقد ورد الأمر بالذكر فيهن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كنا نؤمر‏)‏ كذا في هذه، وسيأتي قريبا بلفظ ‏"‏ أمرنا نبينا‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى نخرج‏)‏ بضم النون وحتى للغاية، والتي بعدها للمبالغة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من خدرها‏)‏ بكسر المعجمة أي سترها‏.‏

وفي رواية الكشميهني ‏"‏ من خدرتها ‏"‏ بالتأنيث‏.‏

وقوله في آخره ‏"‏ وطهرته ‏"‏ بضم الطاء المهملة وسكون الهاء لغة في الطهارة، والمراد بها التطهر من الذنوب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فيكبرن بتكبيرهم‏)‏ ذكر التكبير في حديث أم عطية من هذا الوجه من غرائب الصحيح، وقد أخرجه مسلم أيضا‏.‏

*3*باب الصَّلَاةِ إِلَى الْحَرْبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب الصلاة إلى الحربة‏)‏ زاد الكشمهيني ‏"‏ يوم العيد ‏"‏ وقد تقدمت هذه الترجمة بهذا الحديث دون زيادة الكشميهني في أبواب السترة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ تُرْكَزُ الْحَرْبَةُ قُدَّامَهُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ ثُمَّ يُصَلِّي

الشرح‏:‏

عبد الوهاب المذكور هنا هو ابن عبد المجيد الثقفي

*3*باب حَمْلِ الْعَنَزَةِ أَوْ الْحَرْبَةِ بَيْنَ يَدَيْ الْإِمَامِ يَوْمَ الْعِيدِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب حمل العنزة أو الحربة بين يدي الإمام‏)‏ أورد فيه حديث ابن عمر المذكور من وجه آخر، وكأنه أفرد له ترجمة ليشعر بمغايرة الحكم، لأن الأولى تبين أن سترة المصلى لا يشترط فيها أن توارى جسده، والثانية تثبت مشروعية المشي بين يدي الإمام بآلة من السلاح، ولا يعارض ذلك ما تقدم من النهي عن حمل السلاح يوم العيد لأن ذلك إنما هو عند خشية التأذي كما تقدم قريبا‏.‏

والوليد المذكور هنا هو ابن مسلم، وقد صرح بتحديث الأوزاعي له وبتحديث نافع للأوزاعي فأمن تدليس الوليد وتسويته، وليس للأوزاعي عن نافع عن ابن عمر موصولا في الصحيح غير هذا الحديث، أشار إلى ذلك الحميدي وقد تقدم الكلام على المتن في ‏"‏ باب سترة الإمام ‏"‏ مستوفي بحمد الله تعالى‏.‏

*3*باب خُرُوجِ النِّسَاءِ وَالْحُيَّضِ إِلَى الْمُصَلَّى

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب خروج النساء والحيض إلى المصلى‏)‏ أي يوم العيد‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ أَمَرَنَا نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ نُخْرِجَ الْعَوَاتِقَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ وَعَنْ أَيُّوبَ عَنْ حَفْصَةَ بِنَحْوِهِ وَزَادَ فِي حَدِيثِ حَفْصَةَ قَالَ أَوْ قَالَتْ الْعَوَاتِقَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ وَيَعْتَزِلْنَ الْحُيَّضُ الْمُصَلَّى

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا حماد‏)‏ كذا لكريمة، ونسبه الباقون ‏"‏ ابن زيد‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم‏)‏ كذا لأبي ذرعن الحموي والمستملي، وللباقين ‏"‏ أمرنا ‏"‏ بضم الهمزة وحذف لفظ نبينا، ووقع لمسلم عن أبي الربيع الزهراني عن حماد ‏"‏ قالت أمرنا ‏"‏ تعني النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفي رواية سليمان بن حرب عن حماد عند الإسماعيلي ‏"‏ قالت أمرنا بأبا ‏"‏ بكسر الموحدة بعدها همزة مفتوحة ثم موحدة ممالة وعلى هذا فكأنه كان في رواية الحجبي كذلك لكن بإبدال الهمزة ياء تحتانية فتصير صورتها ‏"‏ بيبا ‏"‏ فكأنها تصحفت فصارت نبينا، وأضاف إليها بعض الكتاب الصلاة بعد التصحيف‏.‏

وأما رواية مسلم فكأنها كانت أمرنا على البناء كما وقع عند الكشميهني وغيره فأفصح بعض الرواة بتسمية الآمر والله أعلم‏.‏

وإنما قلت ذلك لأن سليمان بن حرب أثبت الناس في حماد بن زيد‏.‏

وقد تقدم معنى قول أم عطية ‏"‏ بأبي ‏"‏ في كتاب الحيض‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وعن أيوب‏)‏ هو معطوف على الإسناد المذكور‏.‏

والحاصل أن أيوب حدث به حمادا عن أم عطية، وعن حفصة عن أم عطية أيضا، وقد وقع ذلك صريحا في رواية سليمان بن حرب المذكورة، ورواه أبو داود عن محمد بن عبد الله، وأبو يعلى عن أبي الربيع كلاهما عن حماد عن أيوب عن محمد عن أم عطية، وعن أيوب عن حفصة عن امرأة تحدث عن امرأة أخرى، وزاد أبو الربيع في رواية حفصة ذكر الجلباب، وتبين بذلك أن سياق محمد بن سيرين مغاير لسياق حفصة إسنادا أو متنا، ولم يصب من حمل إحدى الروايتين على الأخرى‏.‏

وسيأتي الكلام على الجلباب وعلى بقية فوائد هذا الحديث بعد أربعة أبواب إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب خُرُوجِ

الصِّبْيَانِ إِلَى الْمُصَلَّى

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب خروج الصبيان إلى المصلى‏)‏ أي في الأعياد، وإن لم يصلوا‏.‏

قال الزين بن المنير‏:‏ آثر المصنف في الترجمة قوله ‏"‏ إلى المصلى ‏"‏ على قوله صلاة العيد ليعم من يتأتى منه الصلاة ومن لا يتأتى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عبد الرحمن ابن عباس‏)‏ بموحدة مكسورة ثم مهملة، وصرح يحيى القطان عن الثوري بأن عبد الرحمن المذكور حدثه كما سيأتي بعد باب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم فطر أو أضحى‏)‏ ليس في هذا السياق بيان كونه كان صبيا حينئذ ليطابق الترجمة، لكن جرى المصنف على عادته في الإشارة إلى ما ورد في بعض طرق الحديث الذي يورده، فسيأتي بعد باب بلفظ ‏"‏ ولولا مكاني من الصغر ما شهدته ‏"‏ ويأتي بقية الكلام عليه في الباب المذكور إن شاء الله تعالى‏.‏

وقوله ‏"‏يوم فطر أو أضحى ‏"‏ شك من الراوي عن ابن عباس، وسيأتي بعد بابين من وجه آخر عن ابن عباس الجزم بأنه يوم الفطر‏.‏

*3*باب اسْتِقْبَالِ الْإِمَامِ النَّاسَ فِي خُطْبَةِ الْعِيدِ

قَالَ أَبُو سَعِيدٍ قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقَابِلَ النَّاسِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب استقبال الإمام الناس في خطبة العيد‏)‏ قال الزين بن المنير ما حاصله‏:‏ إن إعادة هذه الترجمة بعد أن تقدم نظيرها في الجمعة لرفع احتمال من يتوهم أن العيد يخالف الجمعة في ذلك، وأن استقبال الإمام في الجمعة يكون ضروريا لكونه يخطب على المنبر، بخلاف العيد فإنه يخطب فيه على رجليه كما تقدم في ‏"‏ باب خطبة العيد‏"‏، فأراد أن يبين أن الاستقبال سنة على كل حال‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال أبو سعيد‏:‏ قام النبي صلى الله عليه وسلم مقابل الناس‏)‏ هو طرف من حديث وصله المصنف في ‏"‏ باب الخروج إلى المصلى ‏"‏ وقد تقدم قبل عشرة أبواب بلفظ ‏"‏ ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس ‏"‏ وفي رواية مسلم ‏"‏ قام فأقبل على الناس ‏"‏ الحديث‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ عَنْ زُبَيْدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أَضْحًى إِلَى الْبَقِيعِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ وَقَالَ إِنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نَبْدَأَ بِالصَّلَاةِ ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ وَافَقَ سُنَّتَنَا وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ عَجَّلَهُ لِأَهْلِهِ لَيْسَ مِنْ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي ذَبَحْتُ وَعِنْدِي جَذَعَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُسِنَّةٍ قَالَ اذْبَحْهَا وَلَا تَفِي عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ

الشرح‏:‏

قوله في حديث البراء ‏(‏فإنه شيء عجله لأهله‏)‏ في رواية المستملى ‏"‏ فإنما هو شيء ‏"‏ وقوله فيه‏:‏ ‏"‏ ولا تفي عن أحد بعدك ‏"‏ كذا للمستملي والحموي بفاء، وللكشميهني والباقين ‏"‏ ولا تغني ‏"‏ بالغين المعجمة والنون وضم أوله، والمعنى متقارب‏.‏

وسيأتي الكلام عليه مستوفي في كتاب الأضاحي إن شاء الله تعالى‏.‏

وموضع الترجمة منه قوله ‏"‏ ثم أقبل علينا بوجهه‏"‏‏.‏

*3*باب الْعَلَمِ الَّذِي بِالْمُصَلَّى

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب العلم الذي بالمصلى‏)‏ تقدم في ‏"‏ باب الخروج إلى المصلى بغير منبر ‏"‏ التعريف بمكان المصلى، وأن تعريفه بكونه عند دار كثير بن الصلت على سبيل التقريب للسامع، وإلا فدار كثير بن الصلت محدثة بعد النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وظهر من هذا الحديث أنهم جعلوا لمصلاه شيئا يعرف به وهو المراد بالعلم، وهو بفتحتين‏:‏ الشيء الشاخص‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَابِسٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قِيلَ لَهُ أَشَهِدْتَ الْعِيدَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ نَعَمْ وَلَوْلَا مَكَانِي مِنْ الصِّغَرِ مَا شَهِدْتُهُ حَتَّى أَتَى الْعَلَمَ الَّذِي عِنْدَ دَارِ كَثِيرِ بْنِ الصَّلْتِ فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ وَمَعَهُ بِلَالٌ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ فَرَأَيْتُهُنَّ يَهْوِينَ بِأَيْدِيهِنَّ يَقْذِفْنَهُ فِي ثَوْبِ بِلَالٍ ثُمَّ انْطَلَقَ هُوَ وَبِلَالٌ إِلَى بَيْتِهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولولا مكاني من الصغر ما شهدته‏)‏ أي حضرته، وهذا مفسر للمراد من قوله في ‏"‏ باب وضوء الصبيان ‏"‏‏:‏ ولولا مكاني منه ما شهدته، فدل هذا على أن الضمير في قوله ‏"‏ منه ‏"‏ يعود على غير مذكور وهو الصغر، ومشى بعضهم على ظاهر ذلك السياق فقال‏:‏ إن الضمير يعود على النبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى ولولا منزلتي من النبي صلى الله عليه وسلم ما شهدت معه العيد، وهو متجه لكن هذا السياق يخالفه، وفيه نظر لأن الغالب أن الصغر في مثل هذا يكون مانعا لا مقتضيا، فلعل فيه تقديما وتأخيرا، ويكون قوله من الصغر متعلقا بما بعده فيكون المعنى لولا منزلتي من النبي صلى الله عليه وسلم ما حضرت لأجل صغري، ويمكن حمله على ظاهره وأراد‏:‏ بشهود ما وقع من وعظه للنساء، لأن الصغر يقتضي أن يغتفر له الحضور معهن بخلاف الكبر، قال ابن بطال‏:‏ خروج الصبيان للمصلى إنما هو إذا كان الصبي ممن يضبط نفسه عن اللعب ويعقل الصلاة ويتحفظ مما يفسدها، ألا ترى إلى ضبط ابن عباس القصة ا هـ‏.‏

وفيه نظر لأن مشروعية إخراج الصبيان إلى المصلى إنما هو للتبرك وإظهار شعار الإسلام بكثرة من يحضر منهم، ولذلك شرع للحيض كما سيأتي، فهو شامل لمن تقع منهم الصلاة أو لا‏.‏

وعلى هذا إنما يحتاج أن يكون مع الصبيان من يضبطهم عما ذكر من اللعب ونحوه سواء صلوا أم لا‏.‏

وأما ضبط ابن عباس القصة فلعله كان لفرط ذكائه، والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى أتى العلم‏)‏ كذا وقع في هذه الرواية ذكر الغاية بغير ابتداء، والمعنى خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم أو شهدت الخروج معه حتى أتى، وكأنه حذف لدلالة السياق عليه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم أتى النساء‏)‏ يشعر بأن النساء كن على حدة من الرجال غير مختلطات بهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ومعه بلال‏)‏ فيه أن الأدب في مخاطبة النساء في الموعظة أو الحكم أن لا يحضر من الرجال إلا من تدعو الحاجة إليه من شاهد ونحوه، لأن بلالا كان خادم النبي صلى الله عليه وسلم ومتولي قبض الصدقة، وأما ابن عباس فقد تقدم أن ذلك اغتفر له بسبب صغره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يهوين‏)‏ بضم أوله أي يلقين، و قوله‏:‏ ‏(‏يقذفنه‏)‏ أي يلقين الذي يهوين به، وقد فسره في الباب الذي يليه من طريق أخرى من حديث ابن عباس أيضا وسياقه أتم‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ وقع في رواية أبي علي الكشاني عقب هذا الحديث قال محمد بن كثير‏:‏ العلم‏.‏

انتهى‏.‏

وقد وصل المؤلف طريق ابن كثير هذا في كتاب الاعتصام فقال ‏"‏ حدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان ‏"‏ فذكره‏.‏

ولما أخرج البيهقي طريق ابن كثير هذا في العيدين قال‏:‏ أخرجه البخاري فقال‏:‏ وقال ابن كثير، فكأنه أشار إلى هذه الرواية ولم يستحضر الطريق التي في الاعتصام‏.‏

*3*باب مَوْعِظَةِ الْإِمَامِ النِّسَاءَ يَوْمَ الْعِيدِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب موعظة الإمام النساء يوم العيد‏)‏ أي إذا لم يسمعن الخطبة مع الرجال‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَصْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفِطْرِ فَصَلَّى فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ ثُمَّ خَطَبَ فَلَمَّا فَرَغَ نَزَلَ فَأَتَى النِّسَاءَ فَذَكَّرَهُنَّ وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى يَدِ بِلَالٍ وَبِلَالٌ بَاسِطٌ ثَوْبَهُ يُلْقِي فِيهِ النِّسَاءُ الصَّدَقَةَ قُلْتُ لِعَطَاءٍ زَكَاةَ يَوْمِ الْفِطْرِ قَالَ لَا وَلَكِنْ صَدَقَةً يَتَصَدَّقْنَ حِينَئِذٍ تُلْقِي فَتَخَهَا وَيُلْقِينَ قُلْتُ أَتُرَى حَقًّا عَلَى الْإِمَامِ ذَلِكَ وَيُذَكِّرُهُنَّ قَالَ إِنَّهُ لَحَقٌّ عَلَيْهِمْ وَمَا لَهُمْ لَا يَفْعَلُونَهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثني إسحاق بن إبراهيم بن نصر‏)‏ نسب في رواية الأصيلي إلى جده فقال إسحاق بن نصر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم خطب، فلما فرغ نزل‏)‏ فيه إشعار بأنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب على مكان مرتفع لما يقتضيه قوله ‏"‏ نزل ‏"‏ وقد تقدم في ‏"‏ باب الخروج إلى المصلى ‏"‏ أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب في المصلى على الأرض، فلعل الراوي ضمن النزول معنى الانتقال‏.‏

وزعم عياض أن وعظه للنساء كان في أثناء الخطبة وأن ذلك كان في أول الإسلام وأنه خاص به صلى الله عليه وسلم، وتعقبه النووي بهذه المصرحة بأن ذلك كان بعد الخطبة وهو قوله ‏"‏ فلما فرغ نزل فأتى النساء ‏"‏ والخصائص لا تثبت بالاحتمال‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قلت لعطاء‏)‏ القائل هو ابن جريج، وهو موصول بالإسناد المذكور، وقد تقدم الحديث من وجه آخر عن ابن جريج في ‏"‏ باب المشي ‏"‏ بدون هذه الزيادة‏.‏

ودل هذا السؤال على أن ابن جريج فهم من قوله ‏"‏ الصدقة ‏"‏ أنها صدقة الفطر بقرينة كونها يوم الفطر وأخذ من قوله ‏"‏ وبلال باسط ثوبه ‏"‏ لأنه يشعر بأن الذي يلقى فيه بشيء يحتاج إلى ضم فهو لائق بصدقة الفطر المقدرة بالكيل، لكن بين له عطاء أنها كانت صدقة تطوع، وأنها كانت مما لا يجزئ في صدقة الفطر من خاتم ونحوه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تلقى‏)‏ أي المرأة، والمراد جنس النساء، ولذلك عطف عليه بصيغة الجمع فقال ‏"‏ ويلقين ‏"‏ أو المعنى تلقى الواحدة، وكذلك الباقيات يلقين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فتخها‏)‏ بفتح الفاء والمثناة من فوق وبالخاء المعجمة كذا للأكثر، وللمستملي والحموي ‏"‏ فتخها ‏"‏ بالتأنيث، وسيأتي تفسيره قريبا، وحذف مفعول يلقين اكتفاء، وكرر الفعل المذكور في رواية مسلم إشارة إلى التنويع، وسيأتي في حديث ابن عباس بلفظ ‏"‏ فيلقين الفتخ والخواتم‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قلت‏)‏ القائل أيضا ابن جريج، والمسئول عطاء‏.‏

وقوله ‏"‏أنه لحق عليهم ‏"‏ ظاهره أن عطاء كان يرى وجوب ذلك، ولهذا قال عياض‏:‏ لم يقل بذلك غيره‏.‏

وأما النووي فحمله على الاستحباب‏.‏

وقال‏:‏ لا مانع من القول به، إذا لم يترتب على ذلك مفسدة‏.‏

الحديث‏:‏

قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَأَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ شَهِدْتُ الْفِطْرَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يُصَلُّونَهَا قَبْلَ الْخُطْبَةِ ثُمَّ يُخْطَبُ بَعْدُ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ حِينَ يُجَلِّسُ بِيَدِهِ ثُمَّ أَقْبَلَ يَشُقُّهُمْ حَتَّى جَاءَ النِّسَاءَ مَعَهُ بِلَالٌ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ حِينَ فَرَغَ مِنْهَا آنْتُنَّ عَلَى ذَلِكِ قَالَتْ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ لَمْ يُجِبْهُ غَيْرُهَا نَعَمْ لَا يَدْرِي حَسَنٌ مَنْ هِيَ قَالَ فَتَصَدَّقْنَ فَبَسَطَ بِلَالٌ ثَوْبَهُ ثُمَّ قَالَ هَلُمَّ لَكُنَّ فِدَاءٌ أَبِي وَأُمِّي فَيُلْقِينَ الْفَتَخَ وَالْخَوَاتِيمَ فِي ثَوْبِ بِلَالٍ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ الْفَتَخُ الْخَوَاتِيمُ الْعِظَامُ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال ابن جريج وأخبرني الحسن بن مسلم‏)‏ هو معطوف على الإسناد الأول وقد أفرد مسلم الحديث من طريق عبد الرزاق، وساق الثاني قبل الأول فقدم حديث ابن عباس على حديث جابر، وقد تقدم من وجه آخر عن ابن جريج مختصرا في ‏"‏ باب الخطبة‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏خرج النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ كذا فيه بغير أداة عطف، وسيأتي في ‏"‏ باب تفسير الممتحنة ‏"‏ من وجه آخر عن ابن جريج بلفظ ‏"‏ فنزل نبي الله صلى الله عليه وسلم‏"‏، وكذا لمسلم من طريق عبد الرزاق هذه، وقوله ‏"‏ثم يخطب ‏"‏ بضم أوله على البناء للمجهول‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حين يجلس‏)‏ بتشديد اللام المكسورة، وحذف مفعوله، وهو ثابت في رواية مسلم بلفظ ‏"‏ يجلس الرجال بيده‏"‏، وكأنهم لما انتقل عن مكان خطبته أرادوا الانصراف فأمرهم بالجلوس حتى يفرغ من حاجته ثم ينصرفوا جميعا، أو لعلهم أرادوا أن يتبعوه فمنعهم فيقوى البحث الماضي في آخر الباب الذي قبله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقالت امرأة واحدة منهن لم يجبه غيرها‏:‏ نعم‏)‏ زاد مسلم ‏"‏ يا نبي الله ‏"‏ وفيه دلالة على الاكتفاء في الجواب بنعم وتنزيلها منزلة الإقرار، وأن جواب الواحد عن الجماعة كاف إذا لم ينكروا ولم يمنع مانع من إنكارهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا يدري حسن من هي‏)‏ حسن هو الراوي له عن طاوس ووقع في مسلم وحده ‏"‏ لا يدري حينئذ ‏"‏ وجزم جمع من الحفاظ بأنه تصحيف، ووجهه النووي بأمر محتمل لكن اتحاد المخرج دال على ترجيح رواية الجماعة ولا سيما وجود هذا الموضع في مصنف عبد الرزاق الذي أخرجناه صلى الله عليه وسلم من طريقه في البخاري موافقا لرواية الجماعة‏.‏

والفرق بين الروايتين أن في رواية الجماعة تعيين الذي لم يدر من المرأة، بخلاف رواية مسلم‏.‏

ولم أقف على تسمية هذه المرأة، إلا أنه يختلج في خاطري أنها أسماء بنت يزيد ابن السكن التي تعرف بخطيبة النساء، فإنها روت أصل هذه القصة في حديث أخرجه البيهقي والطبراني وغيرهما من طريق شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد ‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى النساء وأنا معهن فقال‏:‏ يا معشر النساء إنكن أكثر حطب جهنم‏.‏

فناديت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت عليه جريئة‏:‏ لم يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ لأنكن تكثرن اللعن، وتكفرن العشير ‏"‏ الحديث، فلا يبعد أن تكون هي التي أجابته أولا بنعم، فإن القصة واحدة، فلعل بعض الرواة ذكر ما لم يذكره الآخر كما في نظائره والله أعلم‏.‏

وقد روى الطبراني من وجه آخر عن أم سلمة الأنصارية - وهي أسماء المذكورة - أنها كانت في النسوة اللاتي أخذ عليهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخذ الحديث، ولابن سعد من حديثها ‏"‏ أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق‏.‏

الآية‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال فتصدقن‏)‏ هو فعل أمر لهن بالصدقة والفاء سببية أو داخلة على جواب شرط محذوف تقديره إن كنتن على ذلك فتصدقن، ومناسبته للآية من قوله ‏"‏ ولا يعصينك في معروف ‏"‏ فإن ذلك من جملة المعروف الذي أمرن به‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم قال هلم‏)‏ القائل هو بلال، وهو على اللغة الفصحى في التعبير بها للمفرد والجمع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لكن‏)‏ بضم الكاف وتشديد النون، وقوله ‏"‏فدا ‏"‏ بكسر الفاء والقصر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال عبد الرزاق‏:‏ الفتخ الخواتيم العظام كانت في الجاهلية‏)‏ لم يذكر عبد الرزاق في أي شيء كانت تلبس، وقد ذكر ثعلب أنهن يلبسنها في أصابع الأرجل ا هـ‏.‏

ولهذا عطف عليها الخواتيم لأنها عند الإطلاق تنصرف إلى ما يلبس في الأيدي، وقد وقع في بعض طرقه عند مسلم هنا ذكر الخلاخيل، وحكى عن الأصمعي أن الفتخ الخواتيم التي لا فصوص لها، فعلى هذا هو من عطف الأعم على الأخص‏.‏

وفي هذا الحديث من الفوائد أيضا استحباب وعظ النساء وتعليمهن أحكام الإسلام وتذكيرهن بما يجب عليهن، ويستحب حثهن على الصدقة وتخصيصهن بذلك في مجلس منفرد، ومحل ذلك كله إذا أمن الفتنة والمفسدة‏.‏

وفيه خروج النساء إلى المصلى كما سيأتي في الباب الذي بعده‏.‏

وفيه جواز التفدية بالأب والأم، وملاطفة العامل على الصدقة بمن يدفعها إليه‏.‏

واستدل به على جواز صدقة المرأة من مالها من غير توقف على إذن زوجها أو على مقدار معين من مالها كالثلث خلافا لبعض المالكية ووجه الدلالة من القصة ترك الاستفصال عن ذلك كله‏.‏

قال القرطبي‏:‏ ولا يقال في هذا إن أزواجهن كانوا حضورا لأن ذلك لم ينقل ولو نقل فليس فيه تسليم أزواجهن لهن ذلك لأن من ثبت له الحق فالأصل بقاؤه حتى يصرح بإسقاطه ولم ينقل أن القوم صرحوا بذلك ا هـ‏:‏ وأما كونه من الثلث فما دونه فإن ثبت أنهن لا يجوز لهن التصرف فيما زاد على الثلث لم يكن في هذه القصة ما يدل على جواز الزيادة، وفيه أن الصدقة من دوافع العذاب لأنه أمرهن بالصدقة ثم علل بأنهن أكثر أهل النار لما يقع منهن من كفران النعم وغير ذلك كما تقدم في كتاب الحيض من حديث أبي سعيد‏.‏

ووقع نحوه عند مسلم من وجه آخر في حديث جابر، وعند البيهقي من حديث أسماء بنت يزيد كما تقدمت الإشارة إليه‏.‏

وفيه بذل النصيحة والإغلاظ بها لمن احتيج في حقه إلى ذلك، والعناية بذكر ما يحتاج إليه لتلاوة آية الممتحنة لكونها خاصة بالنساء‏.‏

وفيه جواز طلب الصدقة من الأغنياء للمحتاجين ولو كان الطالب غير محتاج، وأخذ منه الصوفية جواز ما اصطلحوا عليه من الطلب، ولا يخفى ما يشترط فيه من أن المطلوب له أيكون غير قادر على التكسب مطلقا أو لما لا بد له منه‏.‏

وفي مبادرة تلك النسوة إلى الصدقة بما يعز عليهن من حليهن مع ضيق الحال في ذلك الوقت دلالة على رفيع مقامهن في الدين وحرصهن على امتثال أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ورضي عنهن، وقد تقدمت بقية فوائد هذا الحديث في كتاب الحيض‏.‏

*3*باب إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا جِلْبَابٌ فِي الْعِيدِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب إذا لم يكن لها جلباب‏)‏ بكسر الجيم وسكون اللام وموحدتين، تقدم تفسيره في كتاب الحيض في ‏"‏ باب شهود الحائض العيدين ‏"‏ قال الزين بن المنير‏:‏ لم يذكر جواب الشرط في الترجمة حوالة على ما ورد في الخبر ا هـ‏.‏

والذي يظهر لي أنه حذفه لما فيه من الاحتمال، فقد تقدم في الباب المذكور أنه يحتمل أن يكون للجنس، أي تعيرها من جنس ثيابها، ويؤيده رواية ابن خزيمة ‏"‏ من جلابيبها ‏"‏ وللترمذي ‏"‏ فلتعرها أختها من جلابيبها ‏"‏ والمراد بالأخت الصاحبة، ويحتمل أن يكون المراد تشركها معها في ثوبها، ويؤيده رواية أبي داود ‏"‏ تلبسها صاحبتها طائفة من ثوبها ‏"‏ يعني إذا كان واسعا، ويحتمل أن يكون المراد بقوله ‏"‏ ثوبها ‏"‏ جنس الثياب فيرجع للأول‏.‏

ويؤخذ منه جواز اشتمال المرأتين في ثوب واحد عند التستر، وقيل‏:‏ إنه ذكر على سبيل المبالغة، أي يخرجن على كل حال ولو اثنتين في جلباب‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ قَالَتْ كُنَّا نَمْنَعُ جَوَارِيَنَا أَنْ يَخْرُجْنَ يَوْمَ الْعِيدِ فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ فَنَزَلَتْ قَصْرَ بَنِي خَلَفٍ فَأَتَيْتُهَا فَحَدَّثَتْ أَنَّ زَوْجَ أُخْتِهَا غَزَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ غَزْوَةً فَكَانَتْ أُخْتُهَا مَعَهُ فِي سِتِّ غَزَوَاتٍ فَقَالَتْ فَكُنَّا نَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى وَنُدَاوِي الْكَلْمَى فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعَلَى إِحْدَانَا بَأْسٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا جِلْبَابٌ أَنْ لَا تَخْرُجَ فَقَالَ لِتُلْبِسْهَا صَاحِبَتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا فَلْيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ حَفْصَةُ فَلَمَّا قَدِمَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ أَتَيْتُهَا فَسَأَلْتُهَا أَسَمِعْتِ فِي كَذَا وَكَذَا قَالَتْ نَعَمْ بِأَبِي وَقَلَّمَا ذَكَرَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا قَالَتْ بِأَبِي قَالَ لِيَخْرُجْ الْعَوَاتِقُ ذَوَاتُ الْخُدُورِ أَوْ قَالَ الْعَوَاتِقُ وَذَوَاتُ الْخُدُورِ شَكَّ أَيُّوبُ وَالْحُيَّضُ وَيَعْتَزِلُ الْحُيَّضُ الْمُصَلَّى وَلْيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ فَقُلْتُ لَهَا الْحُيَّضُ قَالَتْ نَعَمْ أَلَيْسَ الْحَائِضُ تَشْهَدُ عَرَفَاتٍ وَتَشْهَدُ كَذَا وَتَشْهَدُ كَذَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏قالت نعم بأبا‏)‏ بموحدتين بينهما همزة مفتوحة والثانية خفيفة‏.‏

وفي رواية كريمة وأبي الوقت ‏"‏ بأبي ‏"‏ بكسر الثانية على الأصل، أي أفديه بأبي، وقد تقدم في الباب المذكور بلفظ ‏"‏ بيبى ‏"‏ بإبدال الهمزة ياء تحتانية، ووقع عند أحمد من طريق حفصة عن أم عطية قالت ‏"‏ أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي وأمي‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لتخرج العواتق ذوات الخدور‏)‏ كذا للأكثر على أنه صفته وللكشميهني ‏(‏أو قال‏:‏ العواتق وذوات الخدور، شك أيوب‏)‏ يعني هل هو بواو العطف أو لا، وقد تقدم نحوه في الباب المذكور‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقلت لها‏)‏ القائلة المرأة والمقول لها أم عطية، ويحتمل أن تكون القائلة حفصة والمقول لها المرأة وهي أخت أم عطية، والأول أرجح والله أعلم‏.‏

*3*باب اعْتِزَالِ الْحُيَّضِ الْمُصَلَّى

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب اعتزال الحيض المصلى‏)‏ مضمون هذه الترجمة بعض ما تضمنه الحديث الذي في الباب الماضي، وكأنه أعاد هذا الحكم للاهتمام به، وقد تقدم مضموما إلى الباب المذكور في كتاب الحيض‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ قَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ أُمِرْنَا أَنْ نَخْرُجَ فَنُخْرِجَ الْحُيَّضَ وَالْعَوَاتِقَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ قَالَ ابْنُ عَوْنٍ أَوْ الْعَوَاتِقَ ذَوَاتِ الْخُدُورِ فَأَمَّا الْحُيَّضُ فَيَشْهَدْنَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَدَعْوَتَهُمْ وَيَعْتَزِلْنَ مُصَلَّاهُمْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن ابن عون‏)‏ هو عبد الله، ومحمد هو ابن سيرين، وقد شك ابن عون في العواتق كما شك أيوب في الذي قبله، ووقع في رواية منصور بن زاذان عن ابن سيرين عند الترمذي ‏"‏ تخرج الأبكار والعواتق وذوات الخدور‏"‏‏.‏

وفي هذا الحديث من الفوائد جواز مداواة المرأة للرجال الأجانب إذا كانت بإحضار الدواء مثلا والمعالجة بغير مباشرة، إلا إن احتيج إليها عند أمن الفتنة‏.‏

وفيه أن من شأن العواتق والمخدرات عدم البروز إلا فيما أذن لهن فيه‏.‏

وفيه استحباب إعداد الجلباب للمرأة، ومشروعية عارية الثياب‏.‏

واستدل به على وجوب صلاة العيد، وفيه نظر لأن من جملة من أمر بذلك من ليس بمكلف، فظهر أن القصد منه إظهار شعار الإسلام بالمبالغة في الاجتماع ولتعم الجميع البركة، والله أعلم‏.‏

وفيه استحباب خروج النساء إلى شهود العيدين سواء كن شواب أم لا وذوات هيآت أم لا، وقد اختلف فيه السلف، ونقل عياض وجوبه عن أبي بكر وعلي وابن عمر، والذي وقع لنا عن أبي بكر وعلي ما أخرجه ابن أبي شيبة وغيره عنهما فالأحق على كل ذات نطاق الخروج إلى العيدين، وقد ورد هذا مرفوعا بإسناد لا بأس به أخرجه أحمد وأبو يعلى وابن المنذر من طريق امرأة من عبد القيس عن أخت عبد الله بن رواحة به والمرأة لم تسم، والأخت اسمها عمرة صحابية‏.‏

وقوله ‏"‏حق ‏"‏ يحتمل الوجوب ويحتمل تأكد الاستحباب، روى ابن أبي شيبة أيضا عن ابن عمر أنه كان يخرج إلى العيدين من استطاع من أهله، وهذا ليس صريحا في الوجوب أيضا، بل قد روى عن ابن عمر المنع فيحتمل أن يحمل على حالين، ومنهم من حمله على الندب وجزم بذلك الجرجاني من الشافعية وابن حامد من الحنابلة، ولكن نص الشافعي في الأم يقتضي استثناء ذوات الهيآت قال‏:‏ وأحب شهود العجائز وغير ذوات الهيئة الصلاة، وإنا لشهودهن الأعياد أشد استحبابا‏.‏

وقد سقطت واو العطف من رواية المزني في المختصر فصارت غير ذوات الهيئة صفة للعجائز فمشى على ذلك صاحب النهاية ومن تبعه وفيه ما فيه، بل قد روى البيهقي في المعرفة عن الربيع قال قال الشافعي‏:‏ قد روى حديث فيه أن النساء يتركن إلى العيدين، فإن كان ثابتا قلت به، قال البيهقي‏:‏ قد ثبت وأخرجه الشيخان - يعني حديث أم عطية هذا - فيلزم الشافعية القول به، ونقله ابن الرفعة عن البندنيجي وقال‏:‏ إنه ظاهر كلام التنبيه، وقد ادعى بعضهم النسخ فيه، قال الطحاوي‏:‏ وأمره عليه السلام بخروج الحيض وذوات الخدور إلى العيد يحتمل أن يكون في أول الإسلام والمسلمون قليل فأريد التكثير بحضورهن إرهابا للعدو، وأما اليوم فلا يحتاج إلى ذلك‏.‏

وتعقب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال‏.‏

قال الكرماني‏:‏ تاريخ الوقت لا يعرف قلت‏:‏ بل هو معروف بدلالة حديث ابن عباس أنه شهده وهو صغير وكان ذلك بعد فتح مكة فلم يتم مراد الطحاوي، وقد صرح في حديث أم عطية بعلة الحكم وهو شهودهن الخير ودعوة المسلمين ورجاء بركة ذلك اليوم وطهرته، وقد أفتت به أم عطية بعد النبي صلى الله عليه وسلم بمدة كما في هذا الحديث ولم يثبت عن أحد من الصحابة مخالفتها في ذلك، وأما قول عائشة ‏"‏ لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن المساجد ‏"‏ فلا يعارض ذلك لندوره إن سلمنا أن فيه دلالة على أنها أفتت بخلافه، مع أن الدلالة منه بأن عائشة أفتت بالمنع ليست صريحة‏.‏

وفي قوله ‏"‏ إرهابا للعدو ‏"‏ نظر لأن الاستنصار بالنساء والتكثر بهن في الحرب دال على الضعف، والأولى أن يخص ذلك بمن يؤمن عليها وبها الفتنة ولا يترتب على حضورها محذور ولا تزاحم الرجال في الطرق ولا في المجامع، وقد تقدمت بقية فوائد هذا الحديث في الباب المشار إليه من كتاب الحيض‏.‏